إدارة منشآت الأعمال من منظور إسلامي
1 / 1 ـ الأهمية المعاصرة لمنشأة الأعمال:
تكتسب منشأة الأعمال أهميتها المعاصرة من كونها الخلية الرئيسية لتكوين الثروة في المجتمع ولتحقيق النمو الاقتصادي الذي تنشده المجتمعات كافة. فمنشأة الأعمال هي نواة الحركة الاقتصادية داخل أية بيئة اجتماعية مهما اختلفت طبيعة النشاط الذي تمارسه هذه المنشأة، إذ قد يكون هذا في أي من حقول الصناعة التحويلية أو الزراعة أو الاستخراج أو النقل أو الاتصالات أو التجارة أو غير ذلك.
وبالإضافة إلى اختلاف النشاط العام، فإن منشآت الأعمال تختلف في حجمها، مهما كان المعيار المستخدم لقياس الحجم. فبعض هذه المنشآت يستخدم عدداً محدوداً جداً من الأشخاص وربما يتولى شخص واحد إنجاز جميع الأنشطة، أو قد يعمل لدى المنشأة الواحدة مئات أو آلاف من الأشخاص. وهكذا تختلف قيمة الموجودات العائدة للمنشأة وقيمة مبيعاتها وعدد الأسواق التي تعمل فيها وحصصها النسبية من هذه الأسواف. والمؤكد أن تقدم ورفاه أي مجتمع يعتمد اعتماداً رئيسياً على نجاح منشآت الأعمال فيه والمستوى العام لكفاءتها التشغيلية، إذ كلما اتسمت هذه المنشآت بدرجة أعلى من الكفاءة ساهم ذلك في رقي المجتمع وتقدمه إلى حدود أعلى. هذا على فرض ثبات العوامل الأخرى، التي تشمل توفر الثروات الطبيعية لدى المجتمع، ومستويات الثقافة، والتطور المهني عند أبنائه، والموقع الجغرافي للبلد، وعدد نفوسه، وغيرها من العوامل ذات الصلة.
وقد أثبتت البحوث العديدة التي أنجزت في شتى أقطار العالم أهمية الجوانب الاجتماعية والنفسية والروحية في تعظيم عطاء منشآت الأعمال وازدهار المجتمعات الإنسانية. فالاستقرار النفسي لدى الأفراد واكتفاؤهم الروحي، النابعين من علاقات اجتماعية طيبة مع وضوح الفلسفة الدينية، يساعدان بقوة في تصعيد الإنتاجية الكمية والنوعية، الأمر الذي يدفع نحو الأعلى مستويات الأداء لدى منشآت الأعمال.
لابدّ لأي مجتمع من تطوير حضارة أعمال خاصة به تكون مستمدة من تركيبته العامة وخصائصه الرئيسية. فحضارة الأعمال لأي شعب هي جزء لا يتجزأ من مجمل الحضارة القائمة لذلك الشعب، رغم أن الإثنين خاضعان للتغير والتعديل مع مرور الزمن من جراء فعل عوامل مهمة تؤثر أثرها في هذا السياق.
غير أن حضارة الأعمال في أي بلد أو إقليم لها درجة من الخصوصية، وهي في الغالب تحمل سمات معينة. فهي من جهة ترتبط مع الحضارة العامة للبلد أو المجتمع المعني وتعتبر جزءاً منها، إلا أن ضرورات تحقيق أعلى درجة ممكنة من الكفاءة غالباً ما تتطلب حيثيات معينة أو عناصر خاصة، مما يعني إدخال هذه الحيثيات أو العناصر. هذا بالإضافة إلى أن منشآت الأعمال تتعامل على نحو مكثف مع منشآت أجنبية ولابد أن تتأثر بها.
ومفهوم «حضارة الأعمال» يعد نسيجاً ملموساً من المفاهيم والعلاقات الشخصية والممارسات التطبيقية التي قد تنص عليها القوانين والأنظمة والقرارات المكتوبة أو لا تنص. ولا شك في ان أحد مقاييس التقدم الاقتصادي لأي مجتمع هو مدى تطور حضارة الأعمال الخاصة به وتبلورها على نحو واضح وفعال في أنماط تساهم في خدمة أغراض المنشآت صاحبة العلاقة والاقتصاد الكلي أيضاً.
وهنا تجدر الإشارة إلى البعض من العناصر العديدة التي تتكوّن منها حضارة الأعمال، منها الصلاحيات التي يتمتع بها المدير التنفيذي، وعدد أعضاء مجلس الإدارة، وطبيعة العلاقة بين مالكي المنشأة ومجلس الإدارة، والأسلوب المعتمد لاتخاذ القرارات العليا. كما تمتد جوانب حضارة الأعمال للتأثير على كيفية انتقاء أعضاء الفيق الإداري الأعلى، والطرق المتبعة في الإعلان، ومدى دعم المنشأة للقضايا الخيرية، والأساليب المعتمدة لتدبير التمويلات الضرورية.
أما «الحضارة على صعيد المنشأة» الواحدة فيقصد بها النسيج الكامل للعلاقات الشخصية، سواء ما كان منها رسمياً أو مكتوباً أو غير رسمي وغير مكتوب. فهنا، تظهر خصوصية كل منشأة المستمدة منط بيعة أنشطتها وتاريخها، وعدد العاملين فيها، ومؤهلات كل منهم وغير ذلك من الاعتبارات.
غير أن الحضارة الخاصة لأية منشأة أعمال لابد أن تنبع من المجتمع الذي تتواجد فيه والبيئة المحيطة بها، ذلك أن المنشأة تتأثر بقوة بالمجتمع الأوسع، مثلما هي تؤثر في هذا المجتمع إلى حد معين. وبشكل عام، فإن الحضارة الخاصة لأية منشأة تتراكم على مر السنين من جراء تبلور مفاهيم أساسية، وأساليب للعمل ولاتخاذ القرارات، مثلما تتأثر هذه الحضارة بالصعوبات التي جابهت المنشأة عبر مراحل تطورها، ودور وكفاءات الأشخاص المشتغلين فيها والتفاعل المتواصل فيما بينهم.
فحضارة الأعمال في أي مجتمع هي فرع مشتق من الإطار الحضاري العام لذلك المجتمع، كما أن حضارة أية منشأة أعمال تنبع من منهل حضارة الأعمال لذلك المجتمع. فمثلاً، غالباً ما تحسم مسألة المركزية في اتخاذ القرارات بالاستناد إلي حضارة الأعمال السائدة، كذا هو الحال بشأن مسائل عديدة أخرى كالصلاحيات الممنوحة لشاغلي المراكز والمديات الزمنية التي تعد لها الخطط ومقدار التعاون مع منشآت الأعمال الأخرى ودرجة التوسع لجهة حجم المنشأة ومدى تطوير المنشأة لمنتجاتها أو خدماتها.
إن جوهر حضارة الأعمال الإسلامية هو أن جميع عناصرها لا تتضارب مع الشريعة السمحاء، بل تتناغم مع هذه المبادئ وتراعيها إلى أبعد الدرجات المستطاعة. فهذا واضح تمام الوضوح في ضرورة تجنب المحرمات كالقمار أو المسكرات أو الكذب والتحايل في المعاملات التجارية.
ولا يتوقف الأمر عند تجنب المعلومات والابتعاد عنها، إنما يمتد كذلك إلى تبني الأمور المستحبة وتحاشي المكروهات قدر المستطاع. وبشكل عام يمكن القول أن أسس الإدارة الحديثة تتناغم على نحو ساطع مع الشريعة السمحاء، الأمر الذي يعزز لدى المسلمين مكانة دينهم وعمق التشريع الإلهي وصلاحيته لجميع الأطوار والمراحل.
غير أن مصيبة المسلمين الكبرى هي جهلهم بدينهم وابتعادهم عن جوهره على صعيد الممارسة التطبيقية والمعاملات اليومية. ولكل هذا فقد آن الأوان لأن يعيد المسلمون اكتشاف ما ينطوي عليه دينهم الواسع والشامل من عناصر تمكنهم من بلوغ درجات شاهقة من العلو في ميادين العمل والإنتاج كافة، رغم أن ذلك يتطلب أيضاً حنكة وعمقاً وصبراً من جانب عموم المسلمين، خصوصاً من زعمائهم في الميادين الروحية والمال والتجارة والتعاون الاجتماعي.
فالإسلام يحول دون هدر الثروات والطاقات عن طريق تحريم بعض الأنشطة غير المنتجة والضارة كالقمار والمسكرات، حيث يساهم ذلك في تخصيص الموارد نحو النشاطات المنتجة والمثمرة خيراً للمجتمع. كما أن إصرار الإسلام على التشاور والتسامح ورعاية الضعيف وإعطاء كل ذي حق حقه يساعد ويدعم باتجاه قيام كيانات اجتماعية متماسكة ومنسجمة مع ذاتها، مع بلورة علاقات شخصية طيبة ومستقرة بين أفراد المجتمع الواحد.
ولكل ذلك فإن التطبيق العقلاني للمبادئ الإسلامية على صعيد منشآت الأعمال هو لخير هذه المنشآت ويدعم ازدهارها وثباتها وتحقيق المزيد من الأرباح لصالحها. وفي الوقت نفسه، هناك منافع مهمة للمشتغلين عن طريق تهيئة الرفاه والاستقرار لهم، مثلما يساهم ذلك في رقي المجتمع بأسره، فضلاً عن المثوبات في الحياة الآخرة.
إن حضارة الأعمال الإسلامية يجب أن تنعكس على صعيد المنشأة الواحدة من خلال تعيين أهدافها العليا والفرعية ورسم استراتيجياتها العامة والتخصصية. فالأهداف العليا غالباً ما تتناول مسألة الأرباح المراد تحقيقها على مديات مختلفة، مثلما قد تتطرق إلى المبيعات أو النمو أو الحصص السوقية.
أما الاستراتيجيات فتوضع لبيان الأطر أو المساك العامة لبلوغ الأهداف المنشودة، أي أن الاستراتيجيات توضح الأساليب المراد اعتمادها لتحقيق الأهداف. ويمكن الحديث عن الاستراتيجيات على صعيد المنشأة الواحدة، مثلما يمكن تناول الاستراتيجيات على الأصعدة المتخصصة كالتسويق والتمويل والإنتاج والعلاقات العامة داخل المنشأة الواحدة.
ولا شك في أن إدارة المنشأة حينما تتبنى الحضارة الإسلامية، فهي تعمد كذلك إلى تعيين أهداف ورسم استراتيجيات من منطلقات إسلامية. فأية حضارة تستند إلى مفاهيم أساسية، والواضح أن أي مفهوم ضار للمجتمع لا يمكن أن ينسجم مع الإسلام.
فمثلاً، كثيراً ما تعمد منشآت الأعمال في العالم الغربي لإعداد استراتيجيات تبغي تحطيم المنشآت المنافسة وفشلها حتى يخلو السوق للمنشأة الأولى، التي تصبح لديها حينئذ قدرات احتكارية تمكنها من تقليل الناتج وتصعيد الأسعار لغرض تعظيم الأرباح. فهنا تقوم المنشأة بخفض أسعارها وتعظيم الترويج أثناء الأمد القصير من أجل كسب موقع احتكاري على المدى المتوسط أو الطويل.
ففي الوقت الذي يبيح الإسلام لمنشآت الأعمال أن تنافس فيما بينها، فهو لا يسمح لاعتماد أساليب خادعة أو ملتوية لإلحاق الضرر بالآخرين وبالمجتمع بأسره. والواضح أن مثل هذه الأضرار تعرقل النمو التقدم البشري بكامله، وقد جعل الإسلام الإنسان رقيباً على نفسه قبل أن يراقبه الآخرون ليضبطوا تصرفاته ويحدوه عن الانزلاق والإساءة.
ويأتي إعداد الخطط والبرامج على صعيد أكثر تفصيلاً، فكما أن الاستراتيجيات تشتق من الأهداف، فإن الخطط والبرامج تفصل الكيفيات التي يراد عن طريقها تنفيذ الاستراتيجيات. فمثلاً قد توضع خطة لدخول سوق قطري جديد، أو خطة لتصميم وطرح منتوج جديد، كما أن إعداد ميزانية لفترة مقبلة هو أيضاً بمثابة خطة أو برنامج لفترة قادمة.
وكما أن الحضارة الإسلامية إن وجدت حقاً تؤثر أثرها على الأهداف والاستراتيجيات، فهي لابد أن تنعكس كذلك على الخطط والبرامج. فالمبادئ الإسلامية تطبع العلاقات الداخلية ضمن المنشأة، مثلما تقولب وتصيغ علاقات المنشأة الخارجية مع الزبائن والمجهزين والمجتمع المحلي والحكومة.
فعلى الصعيد الداخلي، تبرز المعاملات المتشربة بروح الإسلام بطرق عديدة، منها التشاور الحقيقي بين الأفراد والدقة في إنجاز الأعمال والحرص على عدم إضاعة الوقت والسعي الدؤوب لضبط التلف ومنع التبذير وتحديد الأجور والمرتبات على نحو عادل. وعلى الصعيد الخارجي، فإن المنشأة الإسلامية بمعناها العميق تأخذ جميع معاملاتها وعلاقاتها بجد، وتنظر إلى المستقبل البعيد، وتحرص تماماً على بناء علاقات تتسم بالثقة العالية وتحقق مصالحاً متبادلة للجانبين.
وفي هذا السياق، فإن ما يدعو له الإسلام لا يتناقض مع الإدارة العلمية والعصرية التي تميز منشآت الأعمال الناجحة. فمثل هذه المنشآت تنظر باعتزاز بالغ اتجاه زبائنها ومجهزيها وبقية الجهات الخارجية المتعاملة معها، حيث تعتبر هذه الجهات المصدر المباشر لمبيعاتها وأباحها. ومن هذا المنطلق، فإن هناك جهداً مكثفاً لبناء الثقة المتبادلة ولإرساء التعاون على أسس متينة وطويلة المدى من خلال نبذ الغش وتجنب الاستغلال وتقديم ما يريده الزبون وإعانة المجتمع المحلي والمساهمة في تحقيق الصالح العام.
تمارس منشآت الأعمال بعض الأنشطة الأساسية من أجل بلوغ أهدافها العليا وتحقيق استراتيجياتها المرسومة. فعلى الرغم من بعض الاختلاف في تفاصيل هذه الأنشطة تبعاً لدور المنشأة ضمن الاقتصاد الوطني (أو العالمي)، فإن هناك اتفاقاً عاماً على إطار هذه الأنشطة وتصنيفها من حيث تقسيمها النوعي.
فأول هذه الأنشطة أو الوظائف هو النشاط الإنتاجي، سواء كانت المنشأة تصنع سلعة أو تستخرج من الأرض مادة خاماً أو معدناً معيناً، أو إذا كانت المنشأة تقدم خدمة أو تقوم بعمل تجاري بحت. ولذلك فإن الإنتاج بمعناه الواسع يشمل السلع والخدمات على اختلاف أنواعها.
وهنا حدد الإسلام بعض السلع والخدمات التي لا يجوز إنتاجها أو التعامل بها تجارياً من قريب أو بعيد، منها المنتجات المسكرة ولحوم بعض الحيوانات وخدمات المقامرة والدعارة. لهذا فمن الواضح أن أية منشأة تريد العمل بموجب بنود الشريعة لابد لها أن تتجنب هذه المحرمات وتبتعد عنها.
وإذا نظرنا بإمعان إلى السلع والخدمات المحرمة (مع المستلزمات الداخلة فيها) نجد أن إطارها ليس محدوداً. فاللحوم المحرمة أو التي لم تذبح ذبحاً شرعياً بالإضافة إلى المسكرات القمار والفواحش والممارسات المحرمة الأخرى، حينما تجمع بكاملها نجد أنها تكون حصة غير قليلة من الإنتاج الكلي في البلدان الغربية، بل وحتى في معظم البلدان المسلمة.
فالمنشأة الإسلامية يجب عليها تجنب جميع هذه السلع أو الخدمات والابتعاد عنها كلياً. فمن المحرّم عليها إنتاج أو تقديم هذه السلع أوالخدمات، مثلما يجب عليها الامتناع عن تقديم أية تسهيلات أو ترويجات أو مساهمات تصب في مجمل الأنشطة المرتبطة بإنتاجها أو تسويقها.
ثم هناك النشاط الرئيسي الثاني، وهو التسويق، الذي يتضمن معناه العلمي عناصر عدة، أبرزها التسعير والخزن والتوزيع وأبحاث السوق والعمل على تكييف السلع بموجب رغبات الزبائن والإعلان ووسائل الترويج الأخرى. وفي هذا الحقل أيضاً، هناك مبادئ إسلامية مهمة تؤثر أثرها الواسع والقوي في قولبة العناصر العديدة التي تُكوّن بمجملها جوهر النشاط التسويقي.
فالإعلان مثلاً يجب أن لا يتضمن رياءً أو تحريفاً أو مبالغة، مثلما يجب أن لا ينطوي على أساليب محرمة لحمل الجمهور على الشراء من قبيل استخدام المسكرات أو الخلاعة الجنسية. كما أن التعامل مع الزبائن يجب أن يتسم بالصدق والإنصاف، كما يجب تسعير السلع والخدمات بموجب معايير موضوعية وموحدة دون التمييز بين زبون وآخر.
كما أن اندفاع الجهاز التسويقي في المنشأة لتلبية رغبات الزبائن فيما يتعلق بالمواصفات والنوعية وأوقات السلعة وأماكنها يصب في مجمل العمل الهادف لتطوير المنشأة ولخدمة المجتمع الواسع أيضاً. والمنشأة الإسلامية تحرص من خلال نشاطها التسويقي لبناء علاقات ثقة طويلة الأمد مع زبائنها، حيث تسعى منج انبها لتقديم قيمة عالية لقاء السعر الذي يدفعه المشتري، الأمر الذي يوطد العلاقة ويخدم قضية التقدم الاقتصادي بشكل عام.
ويعتبر التمويل النشاط الرئيسي الثالث لمنشأة الأعمال، وهو يتكون أساسً من ثلاثة جوانب. فالجانب الأول هو تدبير الأموال اللازمة للمنشأة، بينما الثاني توزيع المال المتاح على الأغراض المطلوبة، والثالث تسجيل الصرف وإعداد الموازنات والحسابات النهائية. وهنا كذلك، قدم الإسلام بعض الأسس المهمة، أولها أنه حرّم الربا وشجّع على التكافل والتعاون والعمل المشترك المثمر.
فعوضاً عن الربا، أباحت الشريعة الإسلامية بعض الوسائل الفاعلة، منها مبدأ المشاركة، الذي يقصد به مشاركة مجموعة من الأشخاص أو المؤسسات في تهيئة رأس المال المطلوب للمنشأة ككل أم لمشروع معين.
ثم هناك طريقة المضاربة، التي يقصد بها أن صاحب المال يسلمه إلى المنشأة لاستثماره في المجالات المباحة شرعاً لتكون المنشأة بذلك وكيلاً عن صاحب المال. وتتقاضى المنشأة هنا حصة من الربح المتحقق بموجب اتفاق يبرم بين الطرفين حول مقدار هذه الحصة.
أما المبدأ الثالث المسموح شرعاً فهو المرابحة، التي يقصد بها أن الممول يشتري السلعة المطلوبة ويبيعها بسرع أعلى إلى المنشأة التي تطلبها، إلا أن هذه الأخيرة تدفع الثمن بموجب جدول زمني في المستقبل. وغالباً ما تصلح هذه الطريقة حينما تشتري المنشأة سلعة كبيرة أو ثمينة كأن تكون معدات إنتاجية أو طائرات أو بناية.
وهناك أيضاً أسلوب التأجير، الذي يعني أن صاحب المال يشتري السلعة ثم يؤجرها بموجب سعر وشروط يتفق عليها إلى المنشأة التي تتطلبها. وهنا يكون من الضروري أن يتفاهم الطرفان على أمور عدة، منها الصيانة، وإمكانات زيادة أو خفض الإيجار في المستقبل وكيفية إتمام ذلك بشكل مرض، ومسؤولية المؤجر إزاء أي خلل أو ضرر يحدث للسلعة. كما أن شروط التأجير تنص أحياناً على تحويل ملكيتها عند نهاية المدة إلى المستأجر.
وتعد شؤون الأفراد النشاط الرئيسي الرابع لمنشأة الأعمال المعاصرة، حيث يشمل هذا النشاط تحديد الاحتياجات العددية والنوعية للمشتغلين، وتدبير هذه الاحتياجات بمختلف السبل الممكنة والقانونية. هذا بالإضافة إلى تعيين أجور العاملين والإشراف على أعمالهم وتوجيههم وتطوير قدراتهم وتهيئة الخدمات والرعاية لهم.
وقد وضع الإسلام جملة من الأسس ذات الصلة في هذا الحقل. فبعض هذه الأسس يتصل بتحديد المكافآت المالية وعدالتها، بينما يمتد البعض الآخر إلى مسائل أخرى، لا سيما التعامل بإنصاف معهم وتنمية قدراتهم وإرشادهم من النواحي المهنية والاجتماعية والنفسية.
ولا شك في أن إدارة شؤون الأفراد تتداخل بقوة مع وظائف المنشأة الأخرى من إنتاج وتسويق ومالية وغيرها، لأن المهام المتصلة بالأفراد تطبع بشدة مستوى الأداء في تلك الوظائف. فالانتقاء السديد للأفراد وحسن تدريبهم وتحفيزهم الفاعل، كل هذه أمور لها وقعها الإيجابي في تحقيق الاستراتيجيات والخطط في ميادين الإنتاج والمال والتسويق.
ومن هنا نفهم اهتمام الإسلام القوي بالجانب البشري وحرصه المشهود في كسب ولاء المشتغلين وتحفيزهم نحو أداء أفضل. ومرة أخرى وضع الإسلام إطاراً عاماً للتصرف في هذا الشأن، فضلاً عن أنه ركز على القناعة الشخصية ورادع الضمير الإنساني عن طريق التركيز على إثابة العمل الخير ورضاء الباري عز وجل والتعامل مع البشر برفق بالغ.
إن أية وظيفة تبرز بقوة كنشاط رئيسي بسبب طبيعة أعمال المنشأة والبيئة المحيطة بها لابد أن يفرد لها قسم مستقل للاضطلاع بها. ولهذا نجد في حالات غير قليلة ان هناك دائرة رئيسية للعلاقات العامة أو للشراء أو للهندسة أو للنقل وهكذا.
ومهما تكن طبيعة هذه الوظائف الأخرى، فإن إنجازها على نحو منسجم مع الإطار الإسلامي يعد ركناً رئيسياً من أركان المنشأة الإسلامية. فمن جهة هناك الأمور المحرمة والمكروهة بموجب ما ورد في كتاب الله وسيرة النبي وآله الأطهار والاستنباطات المنطقية للأحكام الفقهية، ثم هناك النص الرئيسي على أن يحكم المرء عقله ويتجنب كل ما هو مخالف لما يمليه عليه العقل والضمير، مع التذكر الدائم لمثوبة الجنة وعقاب النار في الحياة الآخرة.
لا شك في أن الأوضاع الحاضرة تنطوي على تحديات كبرى أمام المنشأة التي تريد الالتزام بمبادئ الإسلام الجليلة وروحه السامية. فبسبب العناصر العديدة المناقضة للإسلام التي تحتويها حضارة الأعمال المعاصرة، يجب على منشأة الأعمال الإسلامية تلمس طريقها وموقعها بعناية كي لا تتورط في أمور محرمة.
وهنا تقع مسؤولية خطيرة على عاتق زعماء المسلمين، سواء كانوا قادة روحيين أو في مجال الأعمال والمال والاقتصاد أو في مجالات أخرى. فمن جهة، يمثل نجاح منشأة الأعمال الإسلامية برهاناً ساطعاً على الطبيعة التطبيقية للدين الحنيف وقيمته الواقعية في إحراز التقدم للمجتمعات المسلمة أينما وجدت ومهما كانت طبيعة البيئة العامة المحيطة بالمسلمين.
أما من الجهة الأخرى، فإن تطوير أداء المنشأة الإسلامية لابد أن يكون تدريجياً، كما أن السعي أثناء الأمدين القصير والمتوسط يجب ان يتركز على تقليص عنصر الحرام إلى أدنى حد مستطاع. فالمنشأة الإسلامية التي غالباً ما تمتد عملياتها عبر الحدود الدولية لا يمكنها الالتزام بمبادئ الشريعة في كل صغيرة وكبيرة، خصوصاً حينما تتعامل مع جهات غير مسلمة. غير أن التقدم بخطى حثيثة نحو مزيد من الأسلمة على صعيد المنشأة الواحدة وعلى المستوى الاجتماعي العام يعد أمراً في غاية الأهمية.
ففي الحقل المالي، هناك أساليب وطرق لابد من الابتعاد عنها لتحل محلها الوسائل المباحة شرعاً. غير أن مجمل الأطر المالية القائمة تجعل هذا الأمر مهمة عسيرة، إذ لم تتبلور حتى الآن الركائز اللازمة لما يمكن أن يدعى بـ «إطار مالي إسلامي» يسمح لمنشأة الأعمال أن تتجنب بسهولة جميع الوسائل المالية المنافية للشريعة.
فهذه المشكلة تتضح بجلاء على صعيد المعاملات الخارجية، حيث ينتشر تطبيق مبدأ الفائدة الثابتة. كما أن الأنظمة المالية في داخل الأقطار المسلمة ما تزال بعيدة كل البعد عما يمكن أن يوصف بأنه «نظام مالي إسلامي»، إذ يستشري الاعتماد على الربا، مثلما تسود مظاهر الرشوة والتحايل وطمس الحقائق.
ولكل هذا، فإن إحدى المهام الرئيسية في هذا الصدد هي تطوير وتوسيع الركائز المالية المبنية على أسس شرعية كي تعوض تدريجياً عن الركائز والمؤسسات غير الإسلامية. فمثلاً من الضروري لمنشأة الأعمال الإسلامية أن ترى إمكانية التعامل مع مصارف إسلامية وأسواق مالية إسلامية حيث يمكنها الاقتراض والإيداع وبيع اسهم إضافية وتمويل فعاليات خارجية دون الركون إلى الطرق الربوية.
وهناك تحديات رئيسية أيضاً في مضماري الإنتاج والتسويق. فالعديد من العناصر المصنوعة من قبل أية منشأة قد تدخل في إنتاج سلع محرمة سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن تدبير الاحتياجات التي تتطلبها المنشأة المسلمة قد يشوبه صعوبات شرعية، خصوصاً إن جرى ذلك عن طريق منشآت تتعاطى منتجات أو خدمات محرمة، أو تستخدم طرقاً في التسويق أو الإنتاج تعتبر منافية للشريعة.
وعلى الصعيد التسويقي، يبرز التحدي كذلك في تجنب أية إشكالات شرعية، بينما يجب التنافس في الوقت نفسه مع الشركات التي لا تمتنع عن ولوج الطرق المحرمة. فالمنشآت التي لا تتقيد بأحكام الشريعة عندها حرية واسعة لتستخدم طرق ترويج عديدة، منها ما يتصل باستغلال المظاهر الخلاعية ومنها ما يتعلق بالإقناع أو الإيحاء الملتوي للتحفيز على شراء البضاعة.
وبخصوص التحدي في المجال الانتاجي، لابد أن يكون الحل تدريجياً. فمن حيث الأساس، ينبغي على منشأة الأعمال الإسلامية أن تتجنب المعاملات الواسعة أو المكثفة مع المنشآت غير المسلمة، لا سيما تلك التي تمارس أعمالاً تحرمها الشريعة بشكل واضح أو مطلق. كذلك يجب العمل بجد نحو زيادة نسبة المعاملات المباحة بشكل دؤوب، سواء كان ذلك مع جهات أو منشآت مسلمة أو غير مسلمة.
أما في حقل التسويق، فإن الضرورة تملي نفسها لأن يبقى الجهد التسويقي قوياً وفاعلاً في جميع فروعه، وذلك بسبب الدور المركزي الذي يلعبه التسويق الفعال في نجاح منشآت الأعمال وازدهارها. غير أن الضرورة تبرز أيضاً في حاجة منشأة الأعمال الإسلامية للابتعاد عن كل محرم ضمن سياق أعمالها التسويقية، مع التزام الصدق في التعامل وتوفير منفعة عالية لقاء السعر الذي يدفعه الزبون، واستخدام وسائل ترويج مباحة ومؤثرة في الأوان نفسه.
وبطبيعة الحال، هناك حقول أخرى تمارس منشأة الأعمال أنشطتها فيها، بالإضافة إلى فعاليات المال والإنتاج والتسويق. فمرة أخرى، تجابه المنشأة المسلمة صعوبات غير قليلة في هذا المضمار بسبب القيود المفروضة من قبل الشريعة، مع لجوء المنشآت غير الإسلامية إلى ألوان عديدة من الأساليب والطرق، بما فيها تلك المنافية للشريعة.
فمن جهة، يتطلب الأمر تقليص العلاقات التجارية ومجالات التعاون مع المنشآت غير المسلمة، خصوصاً تلك التي يطغى الحرام على أعمالها. ومن الجهة الثانية، يجب العمل لتشجيع وتطوير علاقات التعاون مع المنشآت الإسلامية حتى تتكون تدريجياً ركائز قوية في مختلف الميادين تنسجم مع الشريعة من اجل أن يساعد ذلك في بناء إطار عام وحضارة أعمال يتناغمان مع التطلعات والمبادئ الإسلامية.
ـ مستقبل المنشأة الإسلامية:
فبالإضافة إلى توعية الشباب وتطوير التربية البيتية وتقديم العون إلى المسنين والمرضى والمحتاجين، تقع علينا جميعاً ـ خصوصاً القادة ـ مسؤوليات كبرى تتعلق بمستقبل منشآتنا الإسلامية. فالمطلوب تزايد إقامة هذه المنشآت وانتشارها في حقول مختلفة، من صناعة وتجارة وتمويل وزراعة وخدمات وتعليم وغير ذلك من حقول العمل.
ومطلوب أيضاً أن تعتمد المنشأة الإسلامية أفضل الطرق الإدارية وأكثرها ملاءمة للعصر الحديث. فهذا يعني انتقاء عقلانياً للمدراء وبقية المشتغلين، مثلما يتطلب بلورة هياكل تنظيمية علمية، واعتماد أفضل السبل في ميادين الاستراتيجية والتخطيط والرقابة وبقية المهام والوظائف الإدارية.
أن إقامة منشآت أعمال رصينة وناجحة في الميادين المتنوعة والأقاليم الجغرافية أمر ممكن جداً إذا توفرت النوايا الصادقة. غير أن المسلمين لم يثبتوا حتى الآن أن لديهم القدرة على التعاون البناء فيما بينهم لإنجاح مثل هذه الحركة وإعطائها الزخم المطلوب لتحقيق نجاحات كبرى ومتواصلة على صعيدا لواقع.
فما تحقق حتى الآن يمكن اعتباره من نوع النجاحات المحدودة أو الفردية في معظم الأحيان، إذ ما زالت الشركات الغربية تهيمن إلى حد بعيد على اقتصاديات البلدان المسلمة وأيضاً اقتصاديات المجتمعات المسلمة خارج العالم المسلم. والواضح أن حضارة أي مجتمع واقتصاده الوطني أمران متلازمان ومترابطان، مما يعني أن فك الحصار الحضاري للمسلمين يستلزم تحقيق التحرر الاقتصادي بمعناه العميق أيضاً.
هذا يعني أن أسلمة حضارة المسلمين في أرجاء المعمورة لابد أن تتزامن في الوقت نفسه مع قيام وانتشار منشآت أعمال إسلامية. هذا يعني أيضاً أن مسؤولية القادة في دعم حركة إنشاء الأعمال الإسلامية لا تقل في أهميتها عن توعية الجيل الناشئ أو فرز الحلال عن الحرام أو تقديم العون للمحتاجين والضعفاء من المسلمين.
فعلى نحو تدريجي، يجب السهر والعمل بجد ومثابرة لبناء منشآت الأعمال الإسلامية وإطار الركائز الإسلامية. فالمراحل الأولى لابد أن تكون صعبة جداً، كما أن أسلمة الحضارة لابد أن تتقدم يداً بيد مع الأسلمة الاقتصادية والكسب الحلال المباح لأكبر عدد من المسلمين. ذلك أن الأسلمة على صعيد النواة الأساسية تفتح الطريق واسعاً لأسلمة المجتمع بكامله، مما يدحض أقاويل أعداء الإسلام حول عدم صلاحية هذا الدين على صعيد الممارسة التطبيقية. 1 / 2 ـ مفهوم حضارة الأعمال: 1 / 3 ـ الحضارة على صعيد المنشأة: 2 ـ الحضارة الإسلامية ومنشأة الأعمال: 2 / 1 ـ خصائص حضارة الأعمال الإسلامية: 2 / 2 ـ تحديد الأهداف ورسم الاستراتيجيات: 2 / 3 ـ إعداد الخطط والبرامج: 3 ـ بلورة أنشطة الأعمال ضمن إطار إسلامي: 3 / 1 ـ الإنتاج: 3 / 2 ـ التسويق: 3 / 3 ـ التمويل: 3 / 4 ـ شؤون الأفراد: 3 / 5 ـ وظائف أخرى: 4 ـ التحديات القائمة أمام المنشأة الإسلامية: 4 / 1 ـ الحقل المالي: 4 / 2 ـ حقلا الإنتاج والتسويق: 4 / 3 ـ حقول أخرى:
بقلم .. د. كاظم جواد شبر
تكتسب منشأة الأعمال أهميتها المعاصرة من كونها الخلية الرئيسية لتكوين الثروة في المجتمع ولتحقيق النمو الاقتصادي الذي تنشده المجتمعات كافة. فمنشأة الأعمال هي نواة الحركة الاقتصادية داخل أية بيئة اجتماعية مهما اختلفت طبيعة النشاط الذي تمارسه هذه المنشأة، إذ قد يكون هذا في أي من حقول الصناعة التحويلية أو الزراعة أو الاستخراج أو النقل أو الاتصالات أو التجارة أو غير ذلك.
وبالإضافة إلى اختلاف النشاط العام، فإن منشآت الأعمال تختلف في حجمها، مهما كان المعيار المستخدم لقياس الحجم. فبعض هذه المنشآت يستخدم عدداً محدوداً جداً من الأشخاص وربما يتولى شخص واحد إنجاز جميع الأنشطة، أو قد يعمل لدى المنشأة الواحدة مئات أو آلاف من الأشخاص. وهكذا تختلف قيمة الموجودات العائدة للمنشأة وقيمة مبيعاتها وعدد الأسواق التي تعمل فيها وحصصها النسبية من هذه الأسواف. والمؤكد أن تقدم ورفاه أي مجتمع يعتمد اعتماداً رئيسياً على نجاح منشآت الأعمال فيه والمستوى العام لكفاءتها التشغيلية، إذ كلما اتسمت هذه المنشآت بدرجة أعلى من الكفاءة ساهم ذلك في رقي المجتمع وتقدمه إلى حدود أعلى. هذا على فرض ثبات العوامل الأخرى، التي تشمل توفر الثروات الطبيعية لدى المجتمع، ومستويات الثقافة، والتطور المهني عند أبنائه، والموقع الجغرافي للبلد، وعدد نفوسه، وغيرها من العوامل ذات الصلة.
وقد أثبتت البحوث العديدة التي أنجزت في شتى أقطار العالم أهمية الجوانب الاجتماعية والنفسية والروحية في تعظيم عطاء منشآت الأعمال وازدهار المجتمعات الإنسانية. فالاستقرار النفسي لدى الأفراد واكتفاؤهم الروحي، النابعين من علاقات اجتماعية طيبة مع وضوح الفلسفة الدينية، يساعدان بقوة في تصعيد الإنتاجية الكمية والنوعية، الأمر الذي يدفع نحو الأعلى مستويات الأداء لدى منشآت الأعمال.
لابدّ لأي مجتمع من تطوير حضارة أعمال خاصة به تكون مستمدة من تركيبته العامة وخصائصه الرئيسية. فحضارة الأعمال لأي شعب هي جزء لا يتجزأ من مجمل الحضارة القائمة لذلك الشعب، رغم أن الإثنين خاضعان للتغير والتعديل مع مرور الزمن من جراء فعل عوامل مهمة تؤثر أثرها في هذا السياق.
غير أن حضارة الأعمال في أي بلد أو إقليم لها درجة من الخصوصية، وهي في الغالب تحمل سمات معينة. فهي من جهة ترتبط مع الحضارة العامة للبلد أو المجتمع المعني وتعتبر جزءاً منها، إلا أن ضرورات تحقيق أعلى درجة ممكنة من الكفاءة غالباً ما تتطلب حيثيات معينة أو عناصر خاصة، مما يعني إدخال هذه الحيثيات أو العناصر. هذا بالإضافة إلى أن منشآت الأعمال تتعامل على نحو مكثف مع منشآت أجنبية ولابد أن تتأثر بها.
ومفهوم «حضارة الأعمال» يعد نسيجاً ملموساً من المفاهيم والعلاقات الشخصية والممارسات التطبيقية التي قد تنص عليها القوانين والأنظمة والقرارات المكتوبة أو لا تنص. ولا شك في ان أحد مقاييس التقدم الاقتصادي لأي مجتمع هو مدى تطور حضارة الأعمال الخاصة به وتبلورها على نحو واضح وفعال في أنماط تساهم في خدمة أغراض المنشآت صاحبة العلاقة والاقتصاد الكلي أيضاً.
وهنا تجدر الإشارة إلى البعض من العناصر العديدة التي تتكوّن منها حضارة الأعمال، منها الصلاحيات التي يتمتع بها المدير التنفيذي، وعدد أعضاء مجلس الإدارة، وطبيعة العلاقة بين مالكي المنشأة ومجلس الإدارة، والأسلوب المعتمد لاتخاذ القرارات العليا. كما تمتد جوانب حضارة الأعمال للتأثير على كيفية انتقاء أعضاء الفيق الإداري الأعلى، والطرق المتبعة في الإعلان، ومدى دعم المنشأة للقضايا الخيرية، والأساليب المعتمدة لتدبير التمويلات الضرورية.
أما «الحضارة على صعيد المنشأة» الواحدة فيقصد بها النسيج الكامل للعلاقات الشخصية، سواء ما كان منها رسمياً أو مكتوباً أو غير رسمي وغير مكتوب. فهنا، تظهر خصوصية كل منشأة المستمدة منط بيعة أنشطتها وتاريخها، وعدد العاملين فيها، ومؤهلات كل منهم وغير ذلك من الاعتبارات.
غير أن الحضارة الخاصة لأية منشأة أعمال لابد أن تنبع من المجتمع الذي تتواجد فيه والبيئة المحيطة بها، ذلك أن المنشأة تتأثر بقوة بالمجتمع الأوسع، مثلما هي تؤثر في هذا المجتمع إلى حد معين. وبشكل عام، فإن الحضارة الخاصة لأية منشأة تتراكم على مر السنين من جراء تبلور مفاهيم أساسية، وأساليب للعمل ولاتخاذ القرارات، مثلما تتأثر هذه الحضارة بالصعوبات التي جابهت المنشأة عبر مراحل تطورها، ودور وكفاءات الأشخاص المشتغلين فيها والتفاعل المتواصل فيما بينهم.
فحضارة الأعمال في أي مجتمع هي فرع مشتق من الإطار الحضاري العام لذلك المجتمع، كما أن حضارة أية منشأة أعمال تنبع من منهل حضارة الأعمال لذلك المجتمع. فمثلاً، غالباً ما تحسم مسألة المركزية في اتخاذ القرارات بالاستناد إلي حضارة الأعمال السائدة، كذا هو الحال بشأن مسائل عديدة أخرى كالصلاحيات الممنوحة لشاغلي المراكز والمديات الزمنية التي تعد لها الخطط ومقدار التعاون مع منشآت الأعمال الأخرى ودرجة التوسع لجهة حجم المنشأة ومدى تطوير المنشأة لمنتجاتها أو خدماتها.
إن جوهر حضارة الأعمال الإسلامية هو أن جميع عناصرها لا تتضارب مع الشريعة السمحاء، بل تتناغم مع هذه المبادئ وتراعيها إلى أبعد الدرجات المستطاعة. فهذا واضح تمام الوضوح في ضرورة تجنب المحرمات كالقمار أو المسكرات أو الكذب والتحايل في المعاملات التجارية.
ولا يتوقف الأمر عند تجنب المعلومات والابتعاد عنها، إنما يمتد كذلك إلى تبني الأمور المستحبة وتحاشي المكروهات قدر المستطاع. وبشكل عام يمكن القول أن أسس الإدارة الحديثة تتناغم على نحو ساطع مع الشريعة السمحاء، الأمر الذي يعزز لدى المسلمين مكانة دينهم وعمق التشريع الإلهي وصلاحيته لجميع الأطوار والمراحل.
غير أن مصيبة المسلمين الكبرى هي جهلهم بدينهم وابتعادهم عن جوهره على صعيد الممارسة التطبيقية والمعاملات اليومية. ولكل هذا فقد آن الأوان لأن يعيد المسلمون اكتشاف ما ينطوي عليه دينهم الواسع والشامل من عناصر تمكنهم من بلوغ درجات شاهقة من العلو في ميادين العمل والإنتاج كافة، رغم أن ذلك يتطلب أيضاً حنكة وعمقاً وصبراً من جانب عموم المسلمين، خصوصاً من زعمائهم في الميادين الروحية والمال والتجارة والتعاون الاجتماعي.
فالإسلام يحول دون هدر الثروات والطاقات عن طريق تحريم بعض الأنشطة غير المنتجة والضارة كالقمار والمسكرات، حيث يساهم ذلك في تخصيص الموارد نحو النشاطات المنتجة والمثمرة خيراً للمجتمع. كما أن إصرار الإسلام على التشاور والتسامح ورعاية الضعيف وإعطاء كل ذي حق حقه يساعد ويدعم باتجاه قيام كيانات اجتماعية متماسكة ومنسجمة مع ذاتها، مع بلورة علاقات شخصية طيبة ومستقرة بين أفراد المجتمع الواحد.
ولكل ذلك فإن التطبيق العقلاني للمبادئ الإسلامية على صعيد منشآت الأعمال هو لخير هذه المنشآت ويدعم ازدهارها وثباتها وتحقيق المزيد من الأرباح لصالحها. وفي الوقت نفسه، هناك منافع مهمة للمشتغلين عن طريق تهيئة الرفاه والاستقرار لهم، مثلما يساهم ذلك في رقي المجتمع بأسره، فضلاً عن المثوبات في الحياة الآخرة.
إن حضارة الأعمال الإسلامية يجب أن تنعكس على صعيد المنشأة الواحدة من خلال تعيين أهدافها العليا والفرعية ورسم استراتيجياتها العامة والتخصصية. فالأهداف العليا غالباً ما تتناول مسألة الأرباح المراد تحقيقها على مديات مختلفة، مثلما قد تتطرق إلى المبيعات أو النمو أو الحصص السوقية.
أما الاستراتيجيات فتوضع لبيان الأطر أو المساك العامة لبلوغ الأهداف المنشودة، أي أن الاستراتيجيات توضح الأساليب المراد اعتمادها لتحقيق الأهداف. ويمكن الحديث عن الاستراتيجيات على صعيد المنشأة الواحدة، مثلما يمكن تناول الاستراتيجيات على الأصعدة المتخصصة كالتسويق والتمويل والإنتاج والعلاقات العامة داخل المنشأة الواحدة.
ولا شك في أن إدارة المنشأة حينما تتبنى الحضارة الإسلامية، فهي تعمد كذلك إلى تعيين أهداف ورسم استراتيجيات من منطلقات إسلامية. فأية حضارة تستند إلى مفاهيم أساسية، والواضح أن أي مفهوم ضار للمجتمع لا يمكن أن ينسجم مع الإسلام.
فمثلاً، كثيراً ما تعمد منشآت الأعمال في العالم الغربي لإعداد استراتيجيات تبغي تحطيم المنشآت المنافسة وفشلها حتى يخلو السوق للمنشأة الأولى، التي تصبح لديها حينئذ قدرات احتكارية تمكنها من تقليل الناتج وتصعيد الأسعار لغرض تعظيم الأرباح. فهنا تقوم المنشأة بخفض أسعارها وتعظيم الترويج أثناء الأمد القصير من أجل كسب موقع احتكاري على المدى المتوسط أو الطويل.
ففي الوقت الذي يبيح الإسلام لمنشآت الأعمال أن تنافس فيما بينها، فهو لا يسمح لاعتماد أساليب خادعة أو ملتوية لإلحاق الضرر بالآخرين وبالمجتمع بأسره. والواضح أن مثل هذه الأضرار تعرقل النمو التقدم البشري بكامله، وقد جعل الإسلام الإنسان رقيباً على نفسه قبل أن يراقبه الآخرون ليضبطوا تصرفاته ويحدوه عن الانزلاق والإساءة.
ويأتي إعداد الخطط والبرامج على صعيد أكثر تفصيلاً، فكما أن الاستراتيجيات تشتق من الأهداف، فإن الخطط والبرامج تفصل الكيفيات التي يراد عن طريقها تنفيذ الاستراتيجيات. فمثلاً قد توضع خطة لدخول سوق قطري جديد، أو خطة لتصميم وطرح منتوج جديد، كما أن إعداد ميزانية لفترة مقبلة هو أيضاً بمثابة خطة أو برنامج لفترة قادمة.
وكما أن الحضارة الإسلامية إن وجدت حقاً تؤثر أثرها على الأهداف والاستراتيجيات، فهي لابد أن تنعكس كذلك على الخطط والبرامج. فالمبادئ الإسلامية تطبع العلاقات الداخلية ضمن المنشأة، مثلما تقولب وتصيغ علاقات المنشأة الخارجية مع الزبائن والمجهزين والمجتمع المحلي والحكومة.
فعلى الصعيد الداخلي، تبرز المعاملات المتشربة بروح الإسلام بطرق عديدة، منها التشاور الحقيقي بين الأفراد والدقة في إنجاز الأعمال والحرص على عدم إضاعة الوقت والسعي الدؤوب لضبط التلف ومنع التبذير وتحديد الأجور والمرتبات على نحو عادل. وعلى الصعيد الخارجي، فإن المنشأة الإسلامية بمعناها العميق تأخذ جميع معاملاتها وعلاقاتها بجد، وتنظر إلى المستقبل البعيد، وتحرص تماماً على بناء علاقات تتسم بالثقة العالية وتحقق مصالحاً متبادلة للجانبين.
وفي هذا السياق، فإن ما يدعو له الإسلام لا يتناقض مع الإدارة العلمية والعصرية التي تميز منشآت الأعمال الناجحة. فمثل هذه المنشآت تنظر باعتزاز بالغ اتجاه زبائنها ومجهزيها وبقية الجهات الخارجية المتعاملة معها، حيث تعتبر هذه الجهات المصدر المباشر لمبيعاتها وأباحها. ومن هذا المنطلق، فإن هناك جهداً مكثفاً لبناء الثقة المتبادلة ولإرساء التعاون على أسس متينة وطويلة المدى من خلال نبذ الغش وتجنب الاستغلال وتقديم ما يريده الزبون وإعانة المجتمع المحلي والمساهمة في تحقيق الصالح العام.
تمارس منشآت الأعمال بعض الأنشطة الأساسية من أجل بلوغ أهدافها العليا وتحقيق استراتيجياتها المرسومة. فعلى الرغم من بعض الاختلاف في تفاصيل هذه الأنشطة تبعاً لدور المنشأة ضمن الاقتصاد الوطني (أو العالمي)، فإن هناك اتفاقاً عاماً على إطار هذه الأنشطة وتصنيفها من حيث تقسيمها النوعي.
فأول هذه الأنشطة أو الوظائف هو النشاط الإنتاجي، سواء كانت المنشأة تصنع سلعة أو تستخرج من الأرض مادة خاماً أو معدناً معيناً، أو إذا كانت المنشأة تقدم خدمة أو تقوم بعمل تجاري بحت. ولذلك فإن الإنتاج بمعناه الواسع يشمل السلع والخدمات على اختلاف أنواعها.
وهنا حدد الإسلام بعض السلع والخدمات التي لا يجوز إنتاجها أو التعامل بها تجارياً من قريب أو بعيد، منها المنتجات المسكرة ولحوم بعض الحيوانات وخدمات المقامرة والدعارة. لهذا فمن الواضح أن أية منشأة تريد العمل بموجب بنود الشريعة لابد لها أن تتجنب هذه المحرمات وتبتعد عنها.
وإذا نظرنا بإمعان إلى السلع والخدمات المحرمة (مع المستلزمات الداخلة فيها) نجد أن إطارها ليس محدوداً. فاللحوم المحرمة أو التي لم تذبح ذبحاً شرعياً بالإضافة إلى المسكرات القمار والفواحش والممارسات المحرمة الأخرى، حينما تجمع بكاملها نجد أنها تكون حصة غير قليلة من الإنتاج الكلي في البلدان الغربية، بل وحتى في معظم البلدان المسلمة.
فالمنشأة الإسلامية يجب عليها تجنب جميع هذه السلع أو الخدمات والابتعاد عنها كلياً. فمن المحرّم عليها إنتاج أو تقديم هذه السلع أوالخدمات، مثلما يجب عليها الامتناع عن تقديم أية تسهيلات أو ترويجات أو مساهمات تصب في مجمل الأنشطة المرتبطة بإنتاجها أو تسويقها.
ثم هناك النشاط الرئيسي الثاني، وهو التسويق، الذي يتضمن معناه العلمي عناصر عدة، أبرزها التسعير والخزن والتوزيع وأبحاث السوق والعمل على تكييف السلع بموجب رغبات الزبائن والإعلان ووسائل الترويج الأخرى. وفي هذا الحقل أيضاً، هناك مبادئ إسلامية مهمة تؤثر أثرها الواسع والقوي في قولبة العناصر العديدة التي تُكوّن بمجملها جوهر النشاط التسويقي.
فالإعلان مثلاً يجب أن لا يتضمن رياءً أو تحريفاً أو مبالغة، مثلما يجب أن لا ينطوي على أساليب محرمة لحمل الجمهور على الشراء من قبيل استخدام المسكرات أو الخلاعة الجنسية. كما أن التعامل مع الزبائن يجب أن يتسم بالصدق والإنصاف، كما يجب تسعير السلع والخدمات بموجب معايير موضوعية وموحدة دون التمييز بين زبون وآخر.
كما أن اندفاع الجهاز التسويقي في المنشأة لتلبية رغبات الزبائن فيما يتعلق بالمواصفات والنوعية وأوقات السلعة وأماكنها يصب في مجمل العمل الهادف لتطوير المنشأة ولخدمة المجتمع الواسع أيضاً. والمنشأة الإسلامية تحرص من خلال نشاطها التسويقي لبناء علاقات ثقة طويلة الأمد مع زبائنها، حيث تسعى منج انبها لتقديم قيمة عالية لقاء السعر الذي يدفعه المشتري، الأمر الذي يوطد العلاقة ويخدم قضية التقدم الاقتصادي بشكل عام.
ويعتبر التمويل النشاط الرئيسي الثالث لمنشأة الأعمال، وهو يتكون أساسً من ثلاثة جوانب. فالجانب الأول هو تدبير الأموال اللازمة للمنشأة، بينما الثاني توزيع المال المتاح على الأغراض المطلوبة، والثالث تسجيل الصرف وإعداد الموازنات والحسابات النهائية. وهنا كذلك، قدم الإسلام بعض الأسس المهمة، أولها أنه حرّم الربا وشجّع على التكافل والتعاون والعمل المشترك المثمر.
فعوضاً عن الربا، أباحت الشريعة الإسلامية بعض الوسائل الفاعلة، منها مبدأ المشاركة، الذي يقصد به مشاركة مجموعة من الأشخاص أو المؤسسات في تهيئة رأس المال المطلوب للمنشأة ككل أم لمشروع معين.
ثم هناك طريقة المضاربة، التي يقصد بها أن صاحب المال يسلمه إلى المنشأة لاستثماره في المجالات المباحة شرعاً لتكون المنشأة بذلك وكيلاً عن صاحب المال. وتتقاضى المنشأة هنا حصة من الربح المتحقق بموجب اتفاق يبرم بين الطرفين حول مقدار هذه الحصة.
أما المبدأ الثالث المسموح شرعاً فهو المرابحة، التي يقصد بها أن الممول يشتري السلعة المطلوبة ويبيعها بسرع أعلى إلى المنشأة التي تطلبها، إلا أن هذه الأخيرة تدفع الثمن بموجب جدول زمني في المستقبل. وغالباً ما تصلح هذه الطريقة حينما تشتري المنشأة سلعة كبيرة أو ثمينة كأن تكون معدات إنتاجية أو طائرات أو بناية.
وهناك أيضاً أسلوب التأجير، الذي يعني أن صاحب المال يشتري السلعة ثم يؤجرها بموجب سعر وشروط يتفق عليها إلى المنشأة التي تتطلبها. وهنا يكون من الضروري أن يتفاهم الطرفان على أمور عدة، منها الصيانة، وإمكانات زيادة أو خفض الإيجار في المستقبل وكيفية إتمام ذلك بشكل مرض، ومسؤولية المؤجر إزاء أي خلل أو ضرر يحدث للسلعة. كما أن شروط التأجير تنص أحياناً على تحويل ملكيتها عند نهاية المدة إلى المستأجر.
وتعد شؤون الأفراد النشاط الرئيسي الرابع لمنشأة الأعمال المعاصرة، حيث يشمل هذا النشاط تحديد الاحتياجات العددية والنوعية للمشتغلين، وتدبير هذه الاحتياجات بمختلف السبل الممكنة والقانونية. هذا بالإضافة إلى تعيين أجور العاملين والإشراف على أعمالهم وتوجيههم وتطوير قدراتهم وتهيئة الخدمات والرعاية لهم.
وقد وضع الإسلام جملة من الأسس ذات الصلة في هذا الحقل. فبعض هذه الأسس يتصل بتحديد المكافآت المالية وعدالتها، بينما يمتد البعض الآخر إلى مسائل أخرى، لا سيما التعامل بإنصاف معهم وتنمية قدراتهم وإرشادهم من النواحي المهنية والاجتماعية والنفسية.
ولا شك في أن إدارة شؤون الأفراد تتداخل بقوة مع وظائف المنشأة الأخرى من إنتاج وتسويق ومالية وغيرها، لأن المهام المتصلة بالأفراد تطبع بشدة مستوى الأداء في تلك الوظائف. فالانتقاء السديد للأفراد وحسن تدريبهم وتحفيزهم الفاعل، كل هذه أمور لها وقعها الإيجابي في تحقيق الاستراتيجيات والخطط في ميادين الإنتاج والمال والتسويق.
ومن هنا نفهم اهتمام الإسلام القوي بالجانب البشري وحرصه المشهود في كسب ولاء المشتغلين وتحفيزهم نحو أداء أفضل. ومرة أخرى وضع الإسلام إطاراً عاماً للتصرف في هذا الشأن، فضلاً عن أنه ركز على القناعة الشخصية ورادع الضمير الإنساني عن طريق التركيز على إثابة العمل الخير ورضاء الباري عز وجل والتعامل مع البشر برفق بالغ.
إن أية وظيفة تبرز بقوة كنشاط رئيسي بسبب طبيعة أعمال المنشأة والبيئة المحيطة بها لابد أن يفرد لها قسم مستقل للاضطلاع بها. ولهذا نجد في حالات غير قليلة ان هناك دائرة رئيسية للعلاقات العامة أو للشراء أو للهندسة أو للنقل وهكذا.
ومهما تكن طبيعة هذه الوظائف الأخرى، فإن إنجازها على نحو منسجم مع الإطار الإسلامي يعد ركناً رئيسياً من أركان المنشأة الإسلامية. فمن جهة هناك الأمور المحرمة والمكروهة بموجب ما ورد في كتاب الله وسيرة النبي وآله الأطهار والاستنباطات المنطقية للأحكام الفقهية، ثم هناك النص الرئيسي على أن يحكم المرء عقله ويتجنب كل ما هو مخالف لما يمليه عليه العقل والضمير، مع التذكر الدائم لمثوبة الجنة وعقاب النار في الحياة الآخرة.
لا شك في أن الأوضاع الحاضرة تنطوي على تحديات كبرى أمام المنشأة التي تريد الالتزام بمبادئ الإسلام الجليلة وروحه السامية. فبسبب العناصر العديدة المناقضة للإسلام التي تحتويها حضارة الأعمال المعاصرة، يجب على منشأة الأعمال الإسلامية تلمس طريقها وموقعها بعناية كي لا تتورط في أمور محرمة.
وهنا تقع مسؤولية خطيرة على عاتق زعماء المسلمين، سواء كانوا قادة روحيين أو في مجال الأعمال والمال والاقتصاد أو في مجالات أخرى. فمن جهة، يمثل نجاح منشأة الأعمال الإسلامية برهاناً ساطعاً على الطبيعة التطبيقية للدين الحنيف وقيمته الواقعية في إحراز التقدم للمجتمعات المسلمة أينما وجدت ومهما كانت طبيعة البيئة العامة المحيطة بالمسلمين.
أما من الجهة الأخرى، فإن تطوير أداء المنشأة الإسلامية لابد أن يكون تدريجياً، كما أن السعي أثناء الأمدين القصير والمتوسط يجب ان يتركز على تقليص عنصر الحرام إلى أدنى حد مستطاع. فالمنشأة الإسلامية التي غالباً ما تمتد عملياتها عبر الحدود الدولية لا يمكنها الالتزام بمبادئ الشريعة في كل صغيرة وكبيرة، خصوصاً حينما تتعامل مع جهات غير مسلمة. غير أن التقدم بخطى حثيثة نحو مزيد من الأسلمة على صعيد المنشأة الواحدة وعلى المستوى الاجتماعي العام يعد أمراً في غاية الأهمية.
ففي الحقل المالي، هناك أساليب وطرق لابد من الابتعاد عنها لتحل محلها الوسائل المباحة شرعاً. غير أن مجمل الأطر المالية القائمة تجعل هذا الأمر مهمة عسيرة، إذ لم تتبلور حتى الآن الركائز اللازمة لما يمكن أن يدعى بـ «إطار مالي إسلامي» يسمح لمنشأة الأعمال أن تتجنب بسهولة جميع الوسائل المالية المنافية للشريعة.
فهذه المشكلة تتضح بجلاء على صعيد المعاملات الخارجية، حيث ينتشر تطبيق مبدأ الفائدة الثابتة. كما أن الأنظمة المالية في داخل الأقطار المسلمة ما تزال بعيدة كل البعد عما يمكن أن يوصف بأنه «نظام مالي إسلامي»، إذ يستشري الاعتماد على الربا، مثلما تسود مظاهر الرشوة والتحايل وطمس الحقائق.
ولكل هذا، فإن إحدى المهام الرئيسية في هذا الصدد هي تطوير وتوسيع الركائز المالية المبنية على أسس شرعية كي تعوض تدريجياً عن الركائز والمؤسسات غير الإسلامية. فمثلاً من الضروري لمنشأة الأعمال الإسلامية أن ترى إمكانية التعامل مع مصارف إسلامية وأسواق مالية إسلامية حيث يمكنها الاقتراض والإيداع وبيع اسهم إضافية وتمويل فعاليات خارجية دون الركون إلى الطرق الربوية.
وهناك تحديات رئيسية أيضاً في مضماري الإنتاج والتسويق. فالعديد من العناصر المصنوعة من قبل أية منشأة قد تدخل في إنتاج سلع محرمة سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن تدبير الاحتياجات التي تتطلبها المنشأة المسلمة قد يشوبه صعوبات شرعية، خصوصاً إن جرى ذلك عن طريق منشآت تتعاطى منتجات أو خدمات محرمة، أو تستخدم طرقاً في التسويق أو الإنتاج تعتبر منافية للشريعة.
وعلى الصعيد التسويقي، يبرز التحدي كذلك في تجنب أية إشكالات شرعية، بينما يجب التنافس في الوقت نفسه مع الشركات التي لا تمتنع عن ولوج الطرق المحرمة. فالمنشآت التي لا تتقيد بأحكام الشريعة عندها حرية واسعة لتستخدم طرق ترويج عديدة، منها ما يتصل باستغلال المظاهر الخلاعية ومنها ما يتعلق بالإقناع أو الإيحاء الملتوي للتحفيز على شراء البضاعة.
وبخصوص التحدي في المجال الانتاجي، لابد أن يكون الحل تدريجياً. فمن حيث الأساس، ينبغي على منشأة الأعمال الإسلامية أن تتجنب المعاملات الواسعة أو المكثفة مع المنشآت غير المسلمة، لا سيما تلك التي تمارس أعمالاً تحرمها الشريعة بشكل واضح أو مطلق. كذلك يجب العمل بجد نحو زيادة نسبة المعاملات المباحة بشكل دؤوب، سواء كان ذلك مع جهات أو منشآت مسلمة أو غير مسلمة.
أما في حقل التسويق، فإن الضرورة تملي نفسها لأن يبقى الجهد التسويقي قوياً وفاعلاً في جميع فروعه، وذلك بسبب الدور المركزي الذي يلعبه التسويق الفعال في نجاح منشآت الأعمال وازدهارها. غير أن الضرورة تبرز أيضاً في حاجة منشأة الأعمال الإسلامية للابتعاد عن كل محرم ضمن سياق أعمالها التسويقية، مع التزام الصدق في التعامل وتوفير منفعة عالية لقاء السعر الذي يدفعه الزبون، واستخدام وسائل ترويج مباحة ومؤثرة في الأوان نفسه.
وبطبيعة الحال، هناك حقول أخرى تمارس منشأة الأعمال أنشطتها فيها، بالإضافة إلى فعاليات المال والإنتاج والتسويق. فمرة أخرى، تجابه المنشأة المسلمة صعوبات غير قليلة في هذا المضمار بسبب القيود المفروضة من قبل الشريعة، مع لجوء المنشآت غير الإسلامية إلى ألوان عديدة من الأساليب والطرق، بما فيها تلك المنافية للشريعة.
فمن جهة، يتطلب الأمر تقليص العلاقات التجارية ومجالات التعاون مع المنشآت غير المسلمة، خصوصاً تلك التي يطغى الحرام على أعمالها. ومن الجهة الثانية، يجب العمل لتشجيع وتطوير علاقات التعاون مع المنشآت الإسلامية حتى تتكون تدريجياً ركائز قوية في مختلف الميادين تنسجم مع الشريعة من اجل أن يساعد ذلك في بناء إطار عام وحضارة أعمال يتناغمان مع التطلعات والمبادئ الإسلامية.
ـ مستقبل المنشأة الإسلامية:
فبالإضافة إلى توعية الشباب وتطوير التربية البيتية وتقديم العون إلى المسنين والمرضى والمحتاجين، تقع علينا جميعاً ـ خصوصاً القادة ـ مسؤوليات كبرى تتعلق بمستقبل منشآتنا الإسلامية. فالمطلوب تزايد إقامة هذه المنشآت وانتشارها في حقول مختلفة، من صناعة وتجارة وتمويل وزراعة وخدمات وتعليم وغير ذلك من حقول العمل.
ومطلوب أيضاً أن تعتمد المنشأة الإسلامية أفضل الطرق الإدارية وأكثرها ملاءمة للعصر الحديث. فهذا يعني انتقاء عقلانياً للمدراء وبقية المشتغلين، مثلما يتطلب بلورة هياكل تنظيمية علمية، واعتماد أفضل السبل في ميادين الاستراتيجية والتخطيط والرقابة وبقية المهام والوظائف الإدارية.
أن إقامة منشآت أعمال رصينة وناجحة في الميادين المتنوعة والأقاليم الجغرافية أمر ممكن جداً إذا توفرت النوايا الصادقة. غير أن المسلمين لم يثبتوا حتى الآن أن لديهم القدرة على التعاون البناء فيما بينهم لإنجاح مثل هذه الحركة وإعطائها الزخم المطلوب لتحقيق نجاحات كبرى ومتواصلة على صعيدا لواقع.
فما تحقق حتى الآن يمكن اعتباره من نوع النجاحات المحدودة أو الفردية في معظم الأحيان، إذ ما زالت الشركات الغربية تهيمن إلى حد بعيد على اقتصاديات البلدان المسلمة وأيضاً اقتصاديات المجتمعات المسلمة خارج العالم المسلم. والواضح أن حضارة أي مجتمع واقتصاده الوطني أمران متلازمان ومترابطان، مما يعني أن فك الحصار الحضاري للمسلمين يستلزم تحقيق التحرر الاقتصادي بمعناه العميق أيضاً.
هذا يعني أن أسلمة حضارة المسلمين في أرجاء المعمورة لابد أن تتزامن في الوقت نفسه مع قيام وانتشار منشآت أعمال إسلامية. هذا يعني أيضاً أن مسؤولية القادة في دعم حركة إنشاء الأعمال الإسلامية لا تقل في أهميتها عن توعية الجيل الناشئ أو فرز الحلال عن الحرام أو تقديم العون للمحتاجين والضعفاء من المسلمين.
فعلى نحو تدريجي، يجب السهر والعمل بجد ومثابرة لبناء منشآت الأعمال الإسلامية وإطار الركائز الإسلامية. فالمراحل الأولى لابد أن تكون صعبة جداً، كما أن أسلمة الحضارة لابد أن تتقدم يداً بيد مع الأسلمة الاقتصادية والكسب الحلال المباح لأكبر عدد من المسلمين. ذلك أن الأسلمة على صعيد النواة الأساسية تفتح الطريق واسعاً لأسلمة المجتمع بكامله، مما يدحض أقاويل أعداء الإسلام حول عدم صلاحية هذا الدين على صعيد الممارسة التطبيقية. 1 / 2 ـ مفهوم حضارة الأعمال: 1 / 3 ـ الحضارة على صعيد المنشأة: 2 ـ الحضارة الإسلامية ومنشأة الأعمال: 2 / 1 ـ خصائص حضارة الأعمال الإسلامية: 2 / 2 ـ تحديد الأهداف ورسم الاستراتيجيات: 2 / 3 ـ إعداد الخطط والبرامج: 3 ـ بلورة أنشطة الأعمال ضمن إطار إسلامي: 3 / 1 ـ الإنتاج: 3 / 2 ـ التسويق: 3 / 3 ـ التمويل: 3 / 4 ـ شؤون الأفراد: 3 / 5 ـ وظائف أخرى: 4 ـ التحديات القائمة أمام المنشأة الإسلامية: 4 / 1 ـ الحقل المالي: 4 / 2 ـ حقلا الإنتاج والتسويق: 4 / 3 ـ حقول أخرى:
بقلم .. د. كاظم جواد شبر
No comments:
Post a Comment