هندسة التكوين في خدمة الموارد البشرية والمؤسسة
بقلم: عزالدين مبارك
تعيش المؤسسة في عصر العولمة والتحوّلات التكنولوجيّة وتطوّر أساليب التصرف العصريّة أمام تحديات كبيرة أهمها الأنفتاح الاقتصادي والمزاحمة والانتاجية. فقد أصبح اليوم في عالم الأعمال والخدمات والتصرّف في الموارد الرهان متوجها بالأساس نحو الجودة الشاملة والكفاءة وتحقيق الأمتياز فلا بقاء ولا ديمومة إلا للأصلح.
فبعد مرحلة الاعتماد على دعم الدولة وحمايتها بحيث غابت المزاحمة والاعتماد على الذات ومنطق المردودية والانتاجية والانغلاق على الذات انتقلنا الى مرحلة جديدة قوامها الاعتماد على النفس والموارد المتاحة وآليات السوق مما خلق رهانات جديدة أمام المؤسسة.
وليس هناك من شكّ بأنّ للعنصر البشري الدور الاكبر في ربح معركة التغيير والرجال قبل المال كما يقول الأوّلون.
ونظرا لأنّ بلادنا ليست من الدول الغنيّة ماديا ولا تتوفّر لها رؤوس الأموال بالقدر الكافي فمن البديهي التوجّه نحو الرأسمال البشري وهذا ما دأبت عليه تونس منذ فجر الإستقلال، وجميع المعطيات المتوفرة تؤكد أنّ معركة الكم قد نجحنا فيها وبقيت معركة الكيف والتوظيف الأمثل للموارد البشريّة.
وقد أثبتت الدراسات أنّ التكوين الأساسي في الجامعات والمؤسسات التربوية لا يكفي لتلبية الحاجيات الخصوصية على مستوى مراكز العمل بالمؤسسات نظرا لتغليب البعد النظري العام على التكوين التطبيقي اللهم في بعض الاختصاصات القليلة كالهندسة والطبّ.
ولهذه الأسباب تم بعث منظومة التكوين المهني والتي تعد مواصلة للتعلّم مدى الحياة وذلك تماشيا مع تطور الأساليب الحديثة في التصرّف والتكنولوجيا والتأقلم مع التغيّرات في عالم متحوّل وغير مستقرّ.
والعنصر البشري بعد أن كان عبئا على المؤسسة وكلفة أصبح اليوم ثروة وكنزا لا ينضب وبات بالتالي تنميته باستمرار حتى يواكب المستجدات ويساهم في تطوّر المؤسسة وربحيتها وتحسين خدماتها وبالتالي ديمومتها، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه الا من خلال التكوين المستمر وذلك على أسس ثابتة مثلما جاءت به منظومة هندسة التكوين.
فالتكوين على الطريقة الكلاسيكية يعتمد أساسا على تمتيع بعض الأعوان دون سواهم بحلقات تكوينية للإستراحة من العمل أو السفر للخارج وذلك دون الحاجة لذلك بحيث يكون المردود الفعلي على المؤسسة صفرا لأنّ الأمر لا ينبع من واقع العمل.
وفي كثير من الأحيان تنجز أعمال تكوينية لموظفين لا علاقة لهم بطبيعة عملهم كما يُعتمد في غالب الأحيان على العروض المقدمة من طرف مؤسسات التكوين وإن كانت بعيدة كل البعد عن الحاجة وذلك للتمكّن من صرف ما وقع اعتماده في الميزانية مسبّقا.
وتجاوزا لهذه الوضعية الاعتباطية للتكوين وتحقيق الجدوى القصوى في نفس الوقت للعامل والمؤسسة على حد السواء تم وضع مفاهيم جديدة تحت مسمّى »هندسة التكوين«.
والهدف المنشود من هذه المنظومة هو التكوين حسب حاجة المؤسسة ومركز العمل لتحقيق أهداف معيّنة وضمن استراتيجية قائمة الذات حسب تمشي يعتمد على آليات مضبوطة.
ومن أهم أسس هندسة التكوين هو تحديد الحاجيات حسب الأولويات وذلك بالاعتماد على استراتيجية المؤسسة ومشاريعها الحالية والمستقبلية بما في ذلك التوجهات وعقود البرامج وتتم مقارنة الكفاءات المحققة على مستوى مراكز العمل والكفاءات المنتظرة أو المزمع تحقيقها فأن وجد نقص في الكفاءة في مركز معين يجب تكوين الشخص الموجود إذا كان قادرا على ذلك من خلال ما توفر له من قدرات وتكوين أساسي أو تعويضه من داخل المؤسسة في حالة توفر الشخص المناسب أو في الحالة الأخيرة انتداب العون المناسب من السوق الخارجية.
إذن عملية التكوين مرتبطة بضروة الحاجة لذلك من خلال التقييم والمساءلة والتقصي على مستوى مركز العمل.
وبعد هذه المرحلة الأساسية والهامة يأتي دور التكوين ومحتوى التكوين والمؤسسة المكونة والكلفة وكراس الشروط والتقييم.
فالتكوين ضمن هذه المنظومة الجديدة مرتبط بالعائد والمردودية ليساهم في تطور المؤسسة. ولضمان نجاح هذه العملية، تربط منظومة هندسة التكوين العملية التكوينية بتقدم العون في عمله لأن التكوين هو استثمار في الموارد البشرية والرفع من مستوى الكفاءة وهذا يؤدي إذا كنا نتبع تمشي التصرف في الكفاءات الى تحسين الاجور والترقيات والمسؤوليات حتى لا نقع في مصيدة الكفاءة المؤدية الى التراجع الى الوراء واللامبالاة حسب ما كان معمولا به في النظام الكلاسيكي.
فالتقييم العلمي على مستوى المركز لكل عون بعد مرحلة التكوين يعد أمرا ضروريا وفي غاية الاهمية حتى نتحقق من جدوى التكوين ومردوديته على أرض الواقع ما دمنا اعترفنا بأنّه استثمار فلا يكون الاستثمار ناجحا إلا إذا حقق عائدا معيّنا.
واذا كنا نريد أن نحقق الجودة الشاملة على مستوى المؤسسة فلابد من تقييم علمي حسب أدوات وآليات التمشي والتصرف في الكفاءات لكل الأعوان في مراكز عملهم وتحديد حاجياتهم الموضوعية للتكوين أو الترقية أو تغيير المركز وذلك بالابتعاد عن الأهواء الشخصية والمحاباة.
فالتكوين ضروري لكل فرد في المؤسسة وليس حكرا على الإطارات دون سواها، فالملاحظ أن البعض يقوم في السنة بدورات عديدة والبعض الآخر يبقى سنوات عديدة دون الحصول على فرصة للتكوين.
وللابتعاد عن هذا الوضع غير العادل يجب تحديد ساعات معينة كل سنة لكل عون يقوم فيها بالتكوين وذلك حسب حاجة المؤسسة والعون معا.
فالتكوين ينبع أيضا من إرادة العون الذي يحس بأنّه لا يؤدي عمله كما يجب ومن واجبه التنبيه لذلك والانصات إليه فهو الذي يباشر العمل ومن حقه التعبير عن إرادته.
ومن أهمّ الأمور أن يكون ارتباط التكوين بالحوافز المادية والمعنوية ودون ذلك لا يمكن تحقيق الجدوى لأنّ الالتزام العاطفي نحو المؤسسة أصبح في ظلّ السوق المفتوحة أقل شأنا من الالتزام بالكفاءة.
وإنّ بقاء المؤسسة كنواة فاعلة للاقتصاد الوطني في ظلّ مزاحمة شديدة وتغيّرات هيكليّة متسارعة مرتبط أشدّ الاتباط بمنظومة التكوين الأساسي والتكميلي والتي تجعل من العنصر البشري أساس التطوّر والتقدّم في ظل شحّ الموارد المادية.
ولا يمكن تطوير الكفاءة الا بالتكوين الجيّد حسب منظومة هندسة التكوين على أسس عصرية وحديثة.
كما لا يمكن تحسين الجودة والمردودية دون الاعتماد على كفاءة العنصر البشري، فالمال وحده لا يكفي ولا يمكّن المؤسسة من الديمومة خاصة في ظلّ التقلبات والأزمات المتلاحقة.
No comments:
Post a Comment